الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: {إِنَّا أعطيناك}وقرئ أَنْطَينَاكَ {الكوثر} أيِ الخيرُ المفرطُ الكثيرُ من شرفِ النبوةِ الجامعةِ لخيريِّ الدارينِ والرياسةِ العامةِ المستتبعةِ لسعادةِ الدُّنيا والدين، فوعلٌ منَ الكثرةِ وقيلَ: هُوَ نهرٌ في الجنةِ وعنِ النبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلام أنه قرأهَا فقال: «أتدرونَ ما الكوثَرُ؟ إنَّه نهرٌ في الجنةِ وَعَدنيهِ ربِّي فيهِ خيرٌ كثيرٌ» ورُويَ في صفتِهِ أنَّه أَحْلَى من العسلِ وأشدُّ بياضًا من اللبنِ وأبردُ من الثلجِ وألينُ من الزبدِ حافتاهُ الزبرجدُ وأوانيهِ من فضةٍ عددَ نجومِ السماءِ. ورُوي لا يظمأُ من شربَ منْهُ أبدًا أولُ وارديهِ فُقراء المهاجرينَ الدَّنِسُو الثيابِ الشُّعْثُ الرؤوسِ الذينَ لا يزوجونَ المنعمّاتِ ولا تفتحُ لهم أبوابُ السُّدَدِ يموتُ أحدهم وحاجتُهُ تتلجلجُ في صدرِه لو أقسمَ على الله لأبرَّهُ.وعن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُما أنه فسرَ الكوثرَ بالخيرِ الكثيرِ فقال لَه سعيدُ بنُ جُبيرٍ: فإنَّ ناسًا يقولونَ: هُوَ نهرٌ في الجنةِ فقال: هُو منَ الخيرِ الكثيرِ وقيلَ: هو حوضٌ فيهَا وقيلَ: هو أولادُه وأتباعُه أو علماءُ أمتِه أو القرآن الحاوِي لخيرِ الدُّنيا والدينِ. والفاءُ في قوله تعالى: {فَصَلّ لِرَبّكَ} لترتيبِ ما بعدَهَا على ما قبلَها فإنَّ إعطاءَهُ تعالى إيَّاهُ عليهِ السلام ما ذكرَ من العطيةِ التي لم يُعطِهَا ولنْ يعطيهَا أحدا منَ العالمينَ مستوجبٌ للمأمورِ بهِ أيَّ استيجابٍ أي فدُمْ على الصلاةِ لربكَ الذي أفاضَ عليكَ هذه النعمةَ الجليلةَ التي لاَ يضاهيهَا نعمةٌ خالصةً لوجهِه خلافَ الساهينَ عنهَا المرائينَ فيهَا أداءً لحقوقِ شكرِهَا فإنَّ الصلاةَ جامعةٌ لجميعِ أقسامِ الشكرِ {وانحر} البدنَ التي هيَ خيارُ أموالِ العربِ باسمِه تعالى وتصدقْ على المحاويجِ خلافًا لمن يدعهُمْ ويمنعُ عنهُم الماعونَ.وعن عطيةَ: هيَ صلاةُ الفجر بجمعٍ والنحُرُ بمنًى.وقيلَ: صلاةُ العيدِ والتضحيةُ وقيلَ: هيَ جنسُ الصلاةِ والنحرُ وضعُ اليمينِ على الشمالِ وقيلَ: هُوَ أنْ يرفعَ يديهِ في التكبيرِ إلى نحرِه هُوَ المرويُّ عنِ النبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلام.وعن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهمَا: استقبلِ القبلةَ بنحركَ وهُو قول الفَرَّاءِ والكَلْبي وأبي الأَحْوَص {إِنَّ شَانِئَكَ} أيْ مبغضكَ كائنًا منْ كانَ {هُوَ الأبتر} الذي لاَ عقِبَ لَهُ حيثُ لا يبقَى منهُ نسلٌ ولا حُسنُ ذكرٍ، وأمَّا أنتَ فتبقَى ذريتُكَ وحسنُ صيتكَ وآثارُ فضلكَ إلى يومِ القيامةِ ولكَ في الآخرةِ ما لا يندرجُ تحتَ البيانِ وقيلَ: نزلتْ في العاصِ بنِ وائلٍ وأيًا ما كانَ فلا ريبَ في عمومِ الحكمِ. اهـ..قال الألوسي: {إِنَّا أعطيناك}وقرأ الحسن وطلحة وابن محيصن والزعفراني {أنطيناك} بالنون وهي على ما قال التبريزي لغة العرب العرباء من أولى قريش وذكر غيره أنها لغة بني تميم وأهل اليمن وليست من الإبدال الصناعي في شيء ومن كلامه صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا المنطية واليد السفلى المنطاة» وكتب عليه الصلاة والسلام لوائل «أنطوا الثيجة» أي الوسط في الصدقة.{الكوثر} فيه أقوال كثيرة فذهب أكثر المفسرين إلى أنه نهر في الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث المتقدم آنفًا المروي عن الإمام أحمد ومسلم ومن معهما «هل تدرون ما الكوثر قالوا الله تعالى ورسوله أعلم قال هو نهر أعطانيه ربي في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم فأقول يا رب إنه من أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدث بعدك».وقوله عليه الصلاة والسلام على ما أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه وآخرون عن أنس عنه صلى الله عليه وسلم: «دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك إذ فر قلت ما هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الذي أعطاكه الله تعالى».وجاء في حديث عن أنس أيضًا قال: «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قد أعطيت الكوثر قلت يا رسول الله وما الكوثر قال نهر في الجنة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب لا يشرب منه أحد فيظمأ ولا يتوضأ منه أحد فيشعث أبدًا لا يشرب منه من أخفر ذمتي ولا من قتل أهل بيتي».وروى عن عائشة أنها قالت «هو نهر في الجنة عمقه سبعون ألف فرسخ ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل شاطئاه الدر والياقوت والزبرجد خص الله تعالى به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» وقالت «ليس أحد يدخل اصبعيه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر» وهو على التشبيه البليغ وقيل هو حوض له عليه الصلاة والسلام في المحشر.وقول بعضهم الاختلاف في الروايات سببه ملاحظة اختلاف سرعة السير وعدمها وهو قبل الميزان والصراط عند بعض وبعدهما قريبًا من باب الجنة حيث يحبس أهلها من أمته صلى الله عليه وسلم ليتحاللوا من المظالم التي بينهم عند آخرين ويكون على هذا في الأرض المبدلة.وقيل له صلى الله عليه وسلم حوضان حوض قبل الصراط وحوض بعده ويسمى كل منهما على ما حكاه القاضي زكريا كوثرًا وصحح رحمه الله تعالى أنه بعد الصراط وأن الكوثر في الجنة وإن ماءه ينصب فيه ولذا يسمى كوثرًا وليس هو من خواصه عليه الصلاة والسلام كالنهر السابق بل يكون لسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يرده مؤمنو أممهم ففي حديث الترمذي «أن لكل نبي حوضًا وأنهم يتباهون أيهم أكثر واردة وأني أرجو أن أكون أكثرهم واردة».وهو كما قال حديث حسن غريب وهذا الحياض لا يجب الايمان بها كما يجب الايمان بحوضه عليه الصلاة والسلام عندنا خلافًا للمعتزلة النافين له لكون أحاديثه بلغت مبلغ التواتر بخلاف أحاديثها فإنها آحاد بل قيل لا تكاد تبلغ الصحة ورأيت في بعض الكتب أن الكوثر هو النهر الذي ذكره أولًا وهو الحوض وهو على ظهر ملك عظيم يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث يكون فيكون في المحشر إذ يكون عليه الصلاة والسلام فيه وفي الجنة إذ يكون عليه الصلاة والسلام فيها ولا يعجز الله تعالى شيء وقيل هو أولاده عليه الصلاة والسلام لأن السورة نزلت ردًا على ما عابه صلى الله عليه وسلم وهم الحمد لله تعالى كثيرون قد ملؤا البسيطة.وقال أبو بكر بن عباس ويمان بن وثاب أصحابه وأشياعه صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة وقيل علماء أمته صلى الله عليه وسلم وهم أيضًا كثيرون في كل قطر وإن كانوا اليوم في بعض الأقطار والأمر لله تعالى أقل قليل وعن الحسن أنه القرآن وفضائله لا تحصى.وقال الحسين بن الفضل هو تيسير القرآن وتخفيف الشرائع وقيل هو الإسلام.وقال هلال هو التوحيد.وقال عكرمة هو النبوة.وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه هو نور قلبه صلى الله عليه وسلم.وقيل هو العلم والحكمة.وقال ابن كيسان هو الايثار وقيل هو الفضائل الكثيرة المتصف بها عليه الصلاة والسلام.وقيل المقام المحمود وقيل غير ذلك.وقد ذكر في التحرير ستة وعشرين قولا فيه وصحح في (البحر) قول النهر وجماعة أنه الخير الكثير والنعم الدنيوية والأخروية من الفضائل والفواضل ورواه ابن جرير وابن عساكر عن مجاهد وهو المشهور عن الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.وقد أخرج البخاري وابن جرير والحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال الكوثر الخير الذي أعطاه الله تعالى إياه عليه الصلاة والسلام قال أبو بشر قلت لسعيد فإن ناسًا يزعمون أنه نهر في الجنة قال النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله عز وجل إياه صلى الله عليه وسلم وحكى هذا الجواب عن ابن عباس نفسه أيضًا وفيه إشارة إلى أن ما صح في الأحاديث من تفسيره صلى الله عليه وسلم إياه بالنهر من باب التمثيل والتخصيص لنكتة وإلا فبعد أن صح الحديث في ذلك بل كاد يكون متواترًا كيف يعدل عنه إلى تفسير آخر وكذا يقال في سائر ما في الأقوال السابقة وغيرها.وهو فوعل من الكثرة صيغة مبالغة الشيء الكثير كثرة مفرطة قيل زعرابية رجع ابنها من السفر بم آب ابنك قالت بكوثر وقال الكميت:وفي حذف موصوفه ما لا يخفى من المبالغة على ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وفي إسناد الإعطاء إليه دون الإيتاء إشارة إلى أن ذلك إيتاء على جهة التمليك فإن الإعطاء دونه كثيرًا ما يستعمل في ذلك ومنه قوله تعالى لسليمان عليه السلام: {هذا عَطَاؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ} [ص: 39] بعد قوله: {هَبْ لِى مَلَكًا} [ص: 35] وقيل فيه إشارة إلى أن المعطي وإن كان كثيرًا في نفسه قليل بالنسبة إلى شأنه عليه الصلاة والسلام بناء على أن الإيتاء لا يستعمل إلا في الشيء العظيم كقوله تعالى: {وآتاه الله الملك} [البقرة: 251] {ولقد آتينا داود منا فضلًا} [سبأ: 10] {ولقد آتيناك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم} [الحجر: 87] والإعطاء يستعمل في القليل والكثير كما قال تعالى: {أعطي قليلًا وأكدي} [النجم: 34] ففيه من تعظيمه عليه الصلاة والسلام ما فيه وقيل التعبير بذلك لأنه بالتفضل أشبه بخلاف الايتاء فإنه قد يكون واجبًا ففيه إشارة إلى الدوام والتزايد أبدًا لأن التفضل نتيجة كرم الله تعالى الغير المتناهي وفي جعل المفعول الأول ضمير المخاطب دون الرسول أو نحوه إشعار بأن الإعطاء غير معلل هو من محض الاختيار والمشيئة وفيه أيضًا من تعظيمه عليه الصلاة والسلام بالخطاب ما لا يخفى وجوز أن يكون في إسناد الإعطاء إلى نا إشارة إلى أنه مما سعى فيه الملائكة والأنبياء المتقدمون عليهم السلام وفي التعبير بالماضي قيل إشارة إلى تحقق الوقوع وقيل إشارة إلى تعظيم الإعطاء وأنه أمر مرعى لم يترك إلى أن يفعل بعدو قيل إشارة إلى بشارة أخرى كأنه قيل إنا هيؤنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك واشتغالك بالعبودية وقيل إشارة إلى أن حكم الله تعالى بالإغناء والإفقار والإسعاد والإشقاء ليس أمرا محدثًا بل هو حاصل في الأزل.وبنى الفعل على المبتدأ للتأكيد والتقوى وجوز أن يكون للتخصيص على بعض الأقوال السابقة في الكوثر وفي تأكيد الجملة بأن ما لا يخفى من الاعتناء بشأن الخبر وقيل لرد استبعاد السامع الإعطاء لما أنه لم يعلل والمعطى في غاية الكثرة وجوز أن يكون لرد الانكار على بعض الأقوال في الكوثر أيضًا.والفاء في قوله تعالى: {فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر} لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إعطاءه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام ما ذكر من العطية التي لم يعطها أحدا من العالمين مستوجب للمأمور به أي استيجاب أي فدم على الصلاة لربك الذي أفاض عليك ما أفاض من الخير خالصًا لوجهه عز وجل خلاف الساهين عنها المرائين فيها أداه لحق شكره تعالى على ذلك فإن الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر ولذا قيل فصل دون فاشكر وانحر البدن التي هي خيار أموال العرب باسمه تعالى وتصدق على المحاويج خلافًا لمن يدعهم ويمنع منهم الماعون كذا قيل وجعل السورة عليه كالمقابلة لما قبلها كما فعل الإمام ولم يذكروا مقابل التكذيب بالدين.وقال الشهاب الخفاجي أن الكوثر بمعنى الخير الكثير الشامل للأخروي يقابل ذلك لما فيه من إثباته ضمنًا وكذا إذا كان بمعنى النهر والحوض والأمر على تفسير بالإسلام وتفسير الدين به أيضًا في غاية الظهور والمراد بالصلاة عند أبي مسلم الصلاة المفروضة.وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك وأخرجه الأول وابن المنذر عن ابن عباس وذهب جمع إلى أنها جنس الصلاة وقيل المراد بها صلاة العيد وبالنحر التضحية.أخرج ابن جرير وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال كانت هذه الآية يوم الحديبية أتاه جبريل عليهما الصلاة والسلام فقال انحر وارجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب خطبة الأضحى ثم ركع ركعتين ثم انصرف إلى البدن فنحرها فذلك قوله تعالى: {فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر} واستدل به على وجوب تقديم الصلاة على التضحية وليس بشيء.وأخرج عبد الرزاق وغيره عن مجاهد وعطاء وعكرمة أنهم قالوا المراد صلاة الصبح بمزدلفة والنحر بمنى والأكثرون على أن المراد بالنحر نحر الأضاحي واستدل به بعضهم على وجوب الأضحية لمكان الأمر مع قوله تعالى: {واتبعوه} وأجيب بالتخصص بقوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث كتبت على ولم تكتب عليكم الضحى والأضحية والوتر».وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الأحوص أنه قال وانحر أي استقبل القبلة بنحرك وإليه ذهب الفراء وقال يقال منازلهم تتناحر أي تتقابل وأنشد قوله: وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في (سننه) عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: «لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّا أعطيناك} إلخ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه السلام ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي فقال إنها ليست بنحيرة ولكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذي هم في السموات السبع وإن لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة».وأخرج ابن جرير عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه قال في ذلك ترفع يديك أول ما تكبر في الافتتاح.وأخرج البخاري في (تاريخه) والدارقطني في (الأفراد) وآخرون عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال ضع يدك اليمنى على ساعد اليسرى ثم ضعهما على صدرك في الصلاة.وأخرج نحوه أبو الشيخ والبيهقي في (سننه) عن أنس مرفوعًا ورواه جماعة عن ابن عباس، وروى عن عطاء إن معناه اقعد بين السجدتين حتى يبدو نحرك وعن الضحاك وسليمان التيمي أنهما قالا معناه ارفع يديك عقيب الصلاة عند الدعاء إلى نحرك.ولعل في صحة الأحاديث عند الأكثرين مقالا وإلا فما قالوا الذي قالوا وقد قال الجلال السيوطي في حديث علي كرم الله تعالى وجهه الأول أنه أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم في (المستدرك) بسند ضعيف وقال فيه ابن كثير أنه حديث منكر جدًا بل أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات وقال الجلال في الحديث الآخر عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم بسند لا بأس به ويرجح قول الأكثرين إن لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يخالفه أن الأشهر استعمال النحر في نحر الإبل دون تلك المعاني وإن سنة القرآن ذكر الزكاة بعد الصلاة وما ذكر بذلك المعنى قريب منها بخلافه على تلك المعاني وإن ما ذكروه من المعاني يرجع إلى آداب الصلاة أو إبعاضها فيدخل تحت فصل لربك ويبعد عطفه عليه دون ما عليه الأكثر مع أن القوم كانوا يصلون وينحرون للأوثان فالأنسب أن يؤمر صلى الله عليه وسلم في مقابلتهم بالصلاة والنحر له عز وجل هذا واعتبار الخلوص في {فَصْلٌ} إلخ كما أشرنا إليه لدلالة السياق عليه وقيل لدلالة لأم الاختصاص.وفي الالتفات عن ضمير العظمة إلى خصوص الرب مضافًا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تأكيد لترغيبه صلى الله عليه وسلم في أداء ما أمر به على الوجه الأكمل.{إِنَّ شَانِئَكَ} أي مبغضك كائنًا من كان {هُوَ الابتر} الذي لا عقب له حيث لا يبقى منه نسل ولا حسن ذكر وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان وأصل البتر القطع وشاع في قطع الدنب وقيل لمن لا عقب له أبتر على الاستعارة شبه الولد والأثر الباقي بالذنب لكونه خلفه فكأنه بعده وعدمه بعدمه وفسره قتادة بالحقير الذليل وليس بذاك كما يفصح عنه سبب النزول وفيها عليه دلالة على أن أولاد البنات من الذرية كما قال غير واحد واسم الفاعل أعني شانئ هاهنا قيل بمعنى الماضي ليكون معرفة بالإضافة فيكون الأبتر خبره ولا يشكل ذلك بمن كان يبغضه عليه الصلاة والسلام قبل الايمان من أكابر الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثم هداه الله تعالى للايمان وذاق حلاوته فكان صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وأعز عليه من روحه ولم يكن أبتر لما أن الحكم على المشتق يفيد علية مأخذه فيفيد الكلام إن الأبترية معللة بالبغض فتدور معه وقد زال في أولئك الأكابر رضي الله تعالى عنهم واختار بعضهم في دفع ذلك حمل اسم الفاعل على الاستمرار فهم لم يستمروا على البغض والظاهر أنه انقطع نسل كل من كان مبغضًا له عليه الصلاة والسلام حقيقة وقيل انقطع حقيقة أو حكمًا لأن من أسلم من نسل المبغضين انقطع انتفاع أبيه من بالدعاء ونحوه لأنه لا عصمة بين مسلم وكافر.ما أشرنا إليه من أن هو ضمير فصل هو الأظهر وجوز أن يكون مبتدأ خبره الأبتر والجملة خبر شانئك وحينئذ يجوز صناعة أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال وحمل شانئك على الجنس الظاهر وخصه بعضهم بمن جاء في سبب النزول واحدًا أو متعددًا وفيه روايات.أخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال كان أكبر ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم ثم زينب ثم عبد الله ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية فمات القاسم عليه السلام وهو أول ميت من ولده عليه الصلاة والسلام بمكة ثم مات عبد الله عليه السلام فقال العاص بن وائل السهمي قد انقطع نسله فهو أبتر فأنزل الله تعالى: {إن شانئك هو الأبتر}.وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن شمر بن عطية قال كان عقبة بن أبي معيط يقول إنه لا يبقى للنبي صلى الله عليه وسلم عقب وهو أبتر فأنزل الله فيه {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابتر}.وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب قال لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا إن هذا الصابئ قد بتر الليلة فأنزل الله تعالى: {إِنَّا أعطيناك} السورة.وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس أنه قال في الآية هو أبو جهل أي لأنها نزلت فيه وهذا المقدار في الرواية عن ابن عباس لا بأس به وحكية أبي حيان عنه أنه لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال بتر محمد عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابتر} لا تكاد تصح لأن هلاك اللعين أبي جهل على التحقيق قبل وفاة إبراهيم عليه السلام.وعن عطاء أنها نزلت في أبي لهب.والجمهور على نزولها في العاص بن وائل.وأيًا ما كان فلا ريب في ظهور عموم الحكم والجملة كالتعليل لما يفهمه الكلام فكأنه قيل {إِنَّا أعطيناك} ما لا يدخل تحت الحصر من النعم فصل وانحر خالصًا لوجه ربك ولا تكترث بقول الشانيء الكريه فإنه هو الأبتر لا أنت وتأكيدها قيل للاعتناء بشأن مضمونها وقيل هو مثله في نحو قوله تعالى: {وَلاَ تخاطبنى في الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مغرفون} [هود: 37] وذلك لمكان فلا تكترث إلخ المفهوم من السياق وفي التعبير بالأبتر دون على ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ما لا يخفى من المبالغة.وعمم هذا الشيخ عليه الرحمة كلا من جزأي الجملة فقال إنه سبحانه يبتر شانيء رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل خير فيبتر أهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحًا لمعاده ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته تعالى ومحبته والايمان برسله عليهم السلام ويبتر أعماله فلا يستعمله سبحانه في طاعته ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرًا ولا عونًا ويبتره من جميع القرب فلا يذوق لها طعمًا ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها وهذا جزاء كل من شنأ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل هواه كمن تأول آيات الصفات أو أحاديثها على غير مراد الله تعالى ومراد رسوله عليه الصلاة والسلام أو تمنى أن لا تكون نزلت أو قيلت ومن أقوى العلامات على شنآنه نفرته عنها إذا سمعها حين يستدل بها السلفي أو تمنى أن لا تكون نزلت أو قيلت ومن أقوى العلامات على شنآنه نفرته عنها إذا سمعها حين يستدل بها السلفي على ما دلت عليه من الحق وأي شنآن للرسول عليه الصلاة والسلام أعظم من ذلك وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغناء والدفوف والشبابات فإذا سمعوا القرآن يتلى أو قرئ في مجلسهم استطالوه واستثقلوه وكذلك من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة إلى غير ذلك ولكل نصيب من الانبتار على قدر شنآته وفي بعضه نظر لا يخفى.وقرأ ابن عباس {شنيك} بغير ألف فقيل مقصور من شانى كما قالوا برد في بارد وبر في بار وجوز أن يكون بناءً على فعل هذا واعلم أن هذه السورة الكريمة على قصرها وإيجازها قد اشتملت على ما ينادي على عظيم إعجازها.وقد أطال الإمام فيها الكلام وأتى بكثير مما يستحسنه ذوو الأفهام وذكر أن قوله تعالى: {إِنَّا أعطيناك الكوثر فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر} متضمن الإخبار بالغيب وهو سعة ذات يده صلى الله عليه وسلم وأمته وقيل مثله في ذلك {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الابتر}.وذكر أنه روى أن مسيلمة الكذاب عارضها بقوله: إنا أعطيناك الزماجر فصل لربك وهاجر إن مبغضك رجل كافر.ثم بين الفرق من عدة أوجه وهو لعمري مثل الصبح ظاهر ومن أراد الاطلاع على أزيد مما ذكر فليرجع إلى تفسير الإمام والله تعالى ولي التوفيق والإنعام. اهـ.
|